رحل صباح الثلاثاء، الممثل والمخرج والمنتج الأميركي روبرت ريدفورد عن 89 عاماً في منزله في ولاية يوتا، تاركاً إرثاً فنياً وثقافياً يندر أن يجتمع في شخصية واحدة. لم يكن ريدفورد مجرد نجم وسيم التصق اسمه بالنجاح التجاري في هوليوود، بل كان رمزاً لمرحلة كاملة من السينما الأميركية، ووجهاً لتيار مستقلّ تحدّى صناعة الأفلام التقليدية، وناشطاً بيئياً.
وُلد تشارلز روبرت ريدفورد الابن عام 1936 في سانتا مونيكا في ولاية كاليفورنيا لأسرة متواضعة. فقد والدته في سن مبكرة بعد معاناة مع المرض، فيما عمل والده سائقاً ثم محاسباً. عُرف ريدفورد الشاب بمزاج متمرّد، يشارك في شجارات الشوارع، ويجد نفسه على هامش المجتمع. التحق بجامعة كولورادو بمنحة رياضية في البيسبول، لكنّه سرعان ما تركها بعدما شعر بالاختناق من القيود البيروقراطية.
رحل إلى أوروبا، متنقلاً بين باريس وفلورنسا، إذ درس الفن التشكيلي ورسم لوحات على الأرصفة ليكسب المال. هناك بدأ يكتشف نظرته السياسية للعالم، قبل أن يعود إلى الولايات المتحدة ليدرس التمثيل في الأكاديمية الأميركية للفنون الدرامية في نيويورك. سرعان ما وجد طريقه إلى المسرح والتلفزيون، وحقق أول حضور بارز في مسرحية “حافياً في الحديقة” عام 1963، قبل أن يحوّلها لاحقاً إلى فيلم جمعه مع جاين فوندا.
برز اسم ريدفورد في أواخر الستينيات حين شارك بول نيومان بطولة فيلم Butch Cassidy and The Sundance Kid (1969)، الذي تحوّل إلى أحد أنجح الأفلام في تاريخ هوليوود. هذه الثنائية فتحت له أبواب النجومية الواسعة، ليصبح أحد أكثر الممثلين شعبية ووسامة على الشاشة، تكرّرت شراكته مع نيومان في “المؤامرة” (1973) الذي منحه ترشيحه الوحيد للأوسكار؛ ممثّلاً.
لكن نجاحه لم يقتصر على الكوميديا أو الدراما الرومانسية، فقد رسّخ مكانته في أفلام سياسية وتاريخية مثل “كل رجال الرئيس” (1976)، إذ جسّد شخصية الصحافي بوب وودوارد في متابعة فضيحة ووترغيت، كما لعب أدواراً متنوّعة في “ثلاثة أيام للكوندور”، و”جيريمياه جونسون”، و”غاتسبي العظيم”، و”خارج أفريقيا” إلى جانب ميريل ستريب.
بدايات السبعينيات رسمت صورته رمزاً جنسياً عالمياً، لكنه لم يكن مرتاحاً دائماً لهذه الصفة. كان يرى أن “صورة الفتى الوسيم” تعيقه عن أدوار أكثر تعقيداً، لكنه استثمرها أحياناً في أعمال رومانسية خالدة مثل “الطريقة التي كنّا عليها” مع بربرا سترايسند.
في عام 1980 فاجأ ريدفورد الجميع بدخوله مجال الإخراج، فحقق نجاحاً مدوياً مع فيلمه الأول “ناس عاديون” الذي حصد أربع جوائز أوسكار، بينها أفضل فيلم وأفضل مخرج. قاده هذا النجاح إلى مسار جديد، فقدم أفلاماً ذات طابع فكري وإنساني، من أبرزها A River Runs Through It، وQuiz Show الذي تناول فضيحة برامج المسابقات التلفزيونية في الخمسينيات. ورغم تعثّر بعض مشاريعه مثل The Milagro Beanfield War، ظل ريدفورد وفياً لقناعته بضرورة تقديم أفلام تحمل رسائل أعمق من مجرد الترفيه، حتى وإن كلّفه ذلك فشلاً تجارياً.
أكبر بصماته الثقافية ربما كانت خارج الكاميرا. عام 1981 أسس معهد سندانس لدعم الأصوات الجديدة في السينما، ثم استحوذ على مهرجان محلي في يوتا وحوّله إلى مهرجان سندانس السينمائي الذي بات لاحقاً منصة عالمية للسينما المستقلة.
فتح سندانس الباب أمام أسماء بارزة مثل كوينتين تارانتينو، وستيفن سودربرغ، وآفا دوفيرناي، ودارين أرونوفسكي وغيرهم، ليصبح بمثابة المعمل الذي يفرز الأجيال الجديدة من صناع الأفلام، كما تحوّل إلى ساحة بارزة للأفلام الوثائقية ذات الطابع التقدمي، مركّزاً على قضايا البيئة، وحقوق النساء، وحقوق الأقليات.
ومع اتّساع المهرجان ليجذب عشرات الآلاف من الزوار، عبّر ريدفورد مراراً عن استيائه من الطابع التجاري والاحتفالي الذي غطّى على جوهره الفني، لكنه ظل رمزاً لهذه الحركة حتى انسحب من تمثيلها العلني عام 2019.
منذ السبعينيات انخرط ريدفورد في الدفاع عن البيئة، فقاد حملات ضد مشاريع طرق ومحطات طاقة ملوّثة في يوتا. كانت معاركه ناجحة إلى حد أنه أصبح نموذجاً لـ”الممثل – الناشط البيئي” الذي تبناه لاحقاً نجوم مثل ليوناردو ديكابريو.
لم يحب ريدفورد وصفه بـ”الناشط”، لكنه جسّد المعنى بالفعل عبر دعمه لمجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية، وحضوره في المؤتمرات البيئية الكبرى مثل قمة الأرض في ريو دي جانيرو عام 1992.
تزوج ريدفورد عام 1958 من لولا فان واغنن، وأنجب منها أربعة أبناء، لكن العائلة عانت خسائر موجعة. فقد ابنه الأول سكوت في عمر شهرين بمتلازمة موت الرضع المفاجئ، فيما توفي ابنه جيمس عام 2020 بعد صراع مع مرض مزمن، كما فقدت ابنته شونا حبيبها في جريمة قتل، ونجت لاحقاً من حادث سير خطير. انتهى زواجه الأول بالطلاق عام 1985، وتزوج مجدداً عام 2009 من الفنانة الألمانية سيبيل شاغارس.
هذه المآسي انعكست على شخصيته، فصار ميالاً إلى العزلة والابتعاد عن الأضواء، مقسّماً وقته بين مزرعته في يوتا وأعماله الفنية.
واصل ريدفورد التمثيل حتى سنوات متقدمة من عمره، فشارك في أفلام مثل All Is Lost، إذ أدى دور بحّار وحيد يكافح للبقاء في عرض البحر، وهو أداء شبه صامت نال إعجاب النقاد. كما ظهر في Our Souls at Night إلى جانب جاين فوندا، وThe Old Man & the Gun الذي أعلن بعده اعتزاله التمثيل، بعدما أنهكته العقود الطويلة من ركوب الخيل وممارسة الرياضة.
إلى جانب ذلك، لم يتردد في المشاركة في أعمال جماهيرية، منها ظهوره في عالم مارفل السينمائي، ليؤكد قدرته على التنقّل بين السينما المستقلة والأفلام الضخمة.
نال ريدفورد خلال مسيرته أرفع الأوسمة، منها أوسكار فخري عام 2002، ووسام الحرية الرئاسي من الرئيس باراك أوباما عام 2016. لكنه ظل ينظر إلى مسيرته بقدر من التشكيك الذاتي، متسائلاً إن كانت كل تلك الطبقات من الشهرة والإنتاج والنشاط قد تستحق الثمن الشخصي الذي دفعه.
ومع رحيله، يُجمع كثيرون على أنه جسّد أكثر من مجرد نجم هوليوودي وسيم؛ كان فناناً حمل هواجس جيله، وناشطاً بيئياً مخلصاً، ورائداً للسينما المستقلة التي غيّرت وجه الصناعة. ترك بصمته في الأفلام التي أحبها الجمهور، وفي المهرجانات التي دعمت المبدعين الشباب، وفي المعارك البيئية التي خاضها بإصرار.
روبرت ريدفورد لم يكن مجرد “الفتى الذهبي” الذي سحر الجماهير بابتسامته وشعره الأشقر، بل كان أيضاً الرجل الذي آمن بأن السينما يمكن أن تكون أداة للتغيير، وأن النجومية ليست سوى وسيلة لقول ما هو أهم. ومع غيابه، يظل حاضراً في الذاكرة الجماعية بوصفه واحداً من آخر عمالقة هوليوود الذين أعادوا تعريف معنى النجومية.